من يؤجج الصراع الخفي بين العرب والأتراك؟
في السنوات الأخيرة، تصاعدت لهجة الخطاب الإعلامي والشعبي بين العرب والأتراك في مناسبات مختلفة، ما طرح تساؤلات عميقة حول دوافع هذا التوتر المتصاعد، والجهات المستفيدة منه، وأهدافه الظاهرة والخفية. فهل هي خلافات سياسية؟ أم تصادم حضارات؟ أم مجرد خلافات آنية غذّتها قوى خارجية تسعى لإضعاف التضامن الإسلامي؟
السياق التاريخي: علاقة متجذرة ومتقلبة
العلاقة بين العرب والأتراك تعود إلى قرون طويلة من التفاعل السياسي والثقافي والديني، أبرزها خلال فترة الدولة العثمانية. وعلى الرغم من تباين التقييمات لتلك الحقبة، فإنها تبقى فترة شهدت تعايشًا وتكاملًا حضاريًا امتد إلى معظم أرجاء العالم الإسلامي.
لكن انهيار الدولة العثمانية وبروز القوميات العربية والتركية بعد الحرب العالمية الأولى، أسفر عن نشوء حساسيات قومية جديدة، استغلها الاستعمار الأوروبي لتقسيم المنطقة ورسم حدود سياسية قسّمت الشعوب بدل أن توحدها.
السياسة الحديثة: من التوافق إلى التوتر
شهدت بداية الألفية الثالثة محاولات لتقارب عربي–تركي، خاصة في ظل صعود حكومة حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان. فقد سعت تركيا إلى لعب دور محوري في الشرق الأوسط عبر ما عُرف بـ"سياسة صفر مشاكل"، وشهدت العلاقات الاقتصادية والسياحية والثقافية نموًا ملحوظًا.
لكنّ الأحداث الكبرى في المنطقة، مثل الثورات العربية، والانقلاب في مصر، والحصار على قطر، والتدخلات في سوريا وليبيا، أعادت رسم خارطة التحالفات، وأظهرت خلافات جوهرية في الرؤى بين بعض الأنظمة العربية وتركيا.
الإعلام سلاح الفتنة والتأجيج
من أبرز مظاهر الفتنة بين العرب والأتراك اليوم، الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام التقليدية والجديدة. إذ يُلاحظ وجود حملة ممنهجة في بعض القنوات والصحف والمنصات على مواقع التواصل الاجتماعي تهدف لتشويه صورة الآخر.
ففي مقابل خطاب قومي تركي في بعض الصحف المقربة من الحكومة التركية، نجد حملات إعلامية عربية تتهم تركيا بالتدخل في شؤون العرب ومحاولة إحياء "الاستعمار العثماني".
الخطورة هنا أن غالبية هذا الخطاب لا يستند إلى حقائق موضوعية، بل إلى سرديات انتقائية، تُقدَّم في سياق تعبوي هدفه التحريض والتفرقة، وليس التقريب أو الفهم.
الدين في مرمى النيران
حتى الجانب الديني لم يسلم من محاولات الشحن، حيث أُثيرت قضايا تتعلق بالخلافات المذهبية والتاريخية، بل وجرى استحضار جدالات حول شخصية السلطان عبد الحميد أو حتى طبيعة الخلافة العثمانية نفسها، وكأنها صراع بين إسلامين، وليس تباينًا في التجربة التاريخية.
القوى الغربية المستفيدة من الصراع
لا يمكن الحديث عن فتنة بهذا الحجم دون الإشارة إلى القوى الغربية التي لطالما سعت لتقسيم الشعوب الإسلامية، سواء عبر الاستعمار المباشر، أو عبر دعم النخب القومية العلمانية في مرحلة ما بعد الاستعمار.
اليوم، تتبع تلك القوى نفس السياسة ولكن بوسائل أكثر تطورًا: دعم روايات إعلامية معينة، ضخ ميزانيات في مشاريع ثقافية مشبوهة، والتلاعب بالسرديات القومية في كتب ومناهج وأفلام وثائقية. الهدف؟ إدامة الصراع وإضعاف أي مشروع وحدوي أو تضامن حقيقي بين الشعوب الإسلامية.
الشعوب لا تعادي بعضها... ولكن تُدفع لذلك
من اللافت أن التوتر الإعلامي والسياسي لا ينعكس دائمًا على الشعوب. فالعرب الذين يزورون تركيا في تزايد مستمر، والتجارة بين تركيا ودول عربية كالسعودية والإمارات ومصر تشهد نموًا. وهذا يشير إلى أن الكراهية المصطنعة تُغذّى من نخبة إعلامية وسياسية، وليس من وجدان الشعوب.
نحو رؤية عقلانية للعلاقة
الحاجة اليوم مُلحّة إلى عقلنة الخطاب، ومقاومة الاستقطاب، والنظر إلى تركيا لا كعدو تاريخي أو منافس حضاري، بل كشريك في الجغرافيا والمصير. ولا شك أن هذا يتطلب جهودًا حقيقية من المثقفين والمؤرخين ووسائل الإعلام، لتفكيك سرديات الكراهية وتقديم سرديات بديلة تقوم على التفاهم والتعاون والتعددية.
خلاصة القول
من يُشعل الفتنة بين العرب والأتراك ليس الشعب العربي ولا الشعب التركي، بل قوى داخلية وخارجية تستفيد من الفوضى والصراعات. الفتنة تُغذّى بخطابات متشنجة، وأجندات جيوسياسية، وحسابات اقتصادية، ولا بد من مواجهتها بالحكمة، والتاريخ، والحوار.
العالم الإسلامي لا يحتمل صراعات داخلية جديدة. والوعي بهذه الحقيقة هو السبيل لتجنب الفتنة القادمة، والتي قد تكون أكثر تدميرًا مما نتصور.