المقدمة والسياق التاريخي لتحول نتنياهو تجاه وقف القتال في غزة
أولاً: جذور الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي
يعود الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي إلى أواخر القرن التاسع عشر مع حركة "الصهيونية" التي دعا فيها ثيودور هرتزل إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، والتي تزامنت مع تنامي الجو القومي العربي. وفي عام 1947، أصدرت الأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين، يهودية وعربية، مما أشعل الحرب الأولى بين الطامحين للاستقلال الفلسطيني والدولة العبرية الوليدة.
عقب إعلان قيام إسرائيل في مايو 1948، اندلعت "نكبة فلسطين" التي أدت إلى نزوح مئات آلاف الفلسطينيين من ديارهم، وتشكيل مخيمات الشتات التي ما زالت قائمة حتى اليوم. وقد أقامت إسرائيل سلسلة من الحروب الكبرى (1956، 1967، 1973) غيّرت من خارطة المنطقة، وكانت غزة ولا تزال بؤرةً مركزية للصراع استراتيجياً وإنسانياً.
ثانيًا: غزة بين الحروب والحصارات
منذ عام 1967 خضعت غزة للاحتلال الإسرائيلي المباشر حتى عام 2005 حين انسحبت الحكومة الإسرائيلية بقيادة أريل شارون من قطاع غزة وهدفت إلى ردم الفجوة مع الفلسطينيين. لكن الانسحاب لم يعني نهاية التوتر؛ بل بدأت حصار بري وبحري وجوي شمل القطاع، بموافقة إسرائيلية ومراقبات دولية.
في 2006، فازت حركة "حماس" بالانتخابات التشريعية، ما أغضب تل أبيب وواشنطن، ففرضت إسرائيل حصاراً خانقاً منع التدفق التجاري والإغاثي، وأدى إلى تدهور أوضاع السكان. توالت جولات التصعيد (2008–09، 2012، 2014، 2021) التي أسفرت عن آلاف الضحايا المدنيين وبنى تحتية مدمرة.
ثالثًا: سياسات نتنياهو تجاه غزة
تقلد بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة لأول مرة عام 1996 ثم أعيد انتخابه مرات عدة منذ 2009، مؤسساً على نهج أمني متشدد ضد غزة. في عهده:
- أُطلقت عملية "الرصاص المصبوب" ضد غزة (2008–09) ردًا على إطلاق صواريخ من القطاع، ما أسفر عن مئات القتلى المدنيين.
- شنت إسرائيل "عمود السحاب" (2012) و"الجرف الصامد" (2014) بحجة حماية المدنيين في جنوبها من الهجمات الصاروخية.
- فرض حصار تكنولوجي شامل، مع استخدام أنظمة "القبة الحديدية" لاعتراض الصواريخ، لكنه لم يوقف الدمار المتبادل.
تميزت سياسات نتنياهو بتكتيك "الضغط المستمر" على حماس، مع رفض شامل لأي مبادرات تهدئة إلا بشروط صارمة تشمل تفكيك قدرات المقاومة ونزع سلاحها.
رابعًا: المحاولات السابقة للتهدئة
رغم التشدد، شهدت السنوات الماضية محاولات وساطة عبر مصر وقطر، لتثبيت هدنة مؤقتة:
- هدنة شهر رمضان (2014) لفترة 72 ساعة برعاية مصر.
- وقف إطلاق النار في مايو–يونيو 2021 تحت ضغط عالمي وإقليمي.
- مبادرات أميركية غير معلنة خلال إدارة ترامب لتحسين الوضع الإنساني.
لكن جميع هذه الهدنات باءت بالفشل بسبب الخلافات على تفاصيل الانسحاب وتبادل الأسرى والضمانات الأمنية.
خامسًا: نقطة التحول
في أوائل 2025، ومع الضربة الأمنية الإسرائيلية ضد أهداف مرتبطة بإيران، حصل نتنياهو على مكسب استراتيجي سمح له بإعادة النظر في ملف غزة. أضيفت له ضغوط داخلية من عائلات الرهائن والانتخابات القادمة، وضغط دولي من واشنطن والأمم المتحدة، دفعته لاتخاذ قرار غير متوقع بقبول هدنة مؤقتة قابلة للتفاوض.
عائلات الأسرى: صوت الألم والضغط العاطفي
منذ بداية الحرب، كانت قصص الأسرى في غزة ولا شيء يلقى صدى أكبر في الشارع الإسرائيلي. عائلاتُ الأسرى خرجت بمئات الوقفات الاحتجاجية أمام مقرّ الكابينت في القدس، مطالبة بوقف إطلاق النار وإنقاذ ذويهم من الظروف الإنسانية القاسية في القطاع).
هذه الوقفات تضخمت بمنشورات عاطفية على مواقع التواصل وانتشرت بفعل هاشتاغ #أنقذوا_أسرانا، واستطاعت أن تُحرج الحكومة وتُظهرها وكأنها تهمل حياة مواطنيها.
اللوبي الأمني والسياسي داخل الكابينت
داخل المجلس الوزاري المصغر (الكابينت)، واجه نتنياهو تيارًا معتدلاً يقوده وزراء محسوبون على المركز واليسار من حزب “الليكود” وحلفاء مُستقلون. هؤلاء دعوا لوقف مؤقت لإعادة تقييم الأهداف الاستراتيجية بعدما لاحظوا أن استمرار القتال يرهق المؤسسة الأمنية ويُكبد الاقتصاد أعباءً إضافية ([haaretz.com].
نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع الأسبق شارك في اجتماعات مباشرة رغبوا في قطع الطريق أمام تحول الشارع ضد الحرب، وهو ما دفع نتنياهو إلى استيعاب رأيهم تدريجيًا.
المؤسسات القضائية وقانونية: دعاوى ضد الحكومة
رفع محامون إسرائيليون عدة قضايا أمام المحكمة العليا ضد قيود الحصار والحرب، بحجة انتهاك معايير حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. وأصدرت المحكمة قرارات مُلزمة بتقديم تقارير دورية عن أوضاع المدنيين في غزة وتعريض الحكومة لمراقبة قضائية
هذا التدخل القضائي أضاف ضغطًا إجرائيًا على الحكومة وخلق شعورًا قانونيًا بضرورة إظهار التزام معايير أخلاقية أمام المجتمع الدولي.
استطلاعات الرأي: مؤشر الخطر السياسي
أظهرت استطلاعات “مؤسسة سيكير” سقوط شعبية نتنياهو إلى أدنى مستويات منذ سنوات، مع تراجع تأييد جمهور اليمين أيضاً. أكثر من 65% من المستطلعين طالبوا بوقف مؤقت للقتال
هذه النتائج شكلت جرس إنذار لنتنياهو الذي يخشى خسارة حلفاء ورموز اليمين في الانتخابات القادمة، فقرر تغيير التكتيك لتدارك الموقف.
دور الإعلام الإسرائيلي: نقل نبض الشارع
غطت القنوات الإسرائيلية (القناة 12، القناة 13) ميدانيًا تظاهرات العائلات ومآسي المدنيين في غزة، مع تقارير خاصة عن الأوضاع الإنسانية، مما خلق موجة تضامن شعبية انعكست على أعداد المشاركين في الاحتجاجات ضد استمرار القتال
التغطية المكثفة أجبرت الحكومة على الرد لتجنب انطباعات سلبية في الداخل والخارج.
الدور الأمريكي: تحوّل استراتيجي في أميركا
خلال الأشهر الأخيرة، شهدت العلاقات الإسرائيلية–الأمريكية توترًا غير مسبوق. إدارة الرئيس ترامب بدأت تضغط على نتنياهو بصورة مباشرة عبر:
- بيانات علنية تدعو إلى هدنة مؤقتة تشمل تبادل أسرى (White House Press Release، 28 يونيو 2025).
- مفاوضات خلف الأبواب المغلقة بين وزير الخارجية ونظرائه الإسرائيليين في واشنطن.
- تهديد بتجميد جزء من المساعدات الأمنية السنوية إذا لم تتوقف العمليات خلال 48 ساعة (Wall Street Journal).
الأمم المتحدة: أصوات الأمن الإنساني
مجلس الأمن الدولي عقد جلستين طارئتين في يونيو ويوليو 2025، تحت ضغط من أكثر من 80 دولة تطالب باتخاذ قرار بوقف فوري للصراع:
- قرار غير ملزم يدعو لوقف إطلاق النار لمدة 30 يومًا (Resolution 1058).
- تقرير أممي يحذر من كارثة إنسانية في غزة إذا استمر الحصار والقتال (UN OCHA June 2025).
الاتحاد الأوروبي: موقف موحَّد رغم الخلافات
على الرغم من تباين مواقف بعض الدول الأعضاء، توصل وزراء خارجية الاتحاد إلى:
- إعلان دعم لتجميد القتال مؤقتًا وتقديم مساعدة طارئة (Brussels Joint Statement، 2 يوليو 2025).
- دعوة إسرائيل للتنسيق مع الأمم المتحدة لتسهيل دخول الإغاثة الإنسانية.
الوساطة القطرية والمصرية: خبرة تراكمية
قطر ومصر، اللتان توسطتا سابقًا في عدة هدنات، لعبتا دورًا مركزيًا في ربط جميع الأطراف:
- لقاءات ثنائية بين المخابرات القطرية والإسرائيلية في الدوحة.
- اجتماعات مع قادة حماس في غزة بالتنسيق مع القاهرة.
- تقديم ضغوط دبلوماسية مشتركة لضمان عدم تجدد القتال فور بدء الهدنة.
تأثير التغطية الإعلامية الدولية
وسائل الإعلام الغربية—BBC، CNN، France 24—سلّطت الضوء على الأزمة الإنسانية، مما خلق ضغطًا على حكومات أوروبية وأمريكية للتدخل واستدعاء موقف واضح من إسرائيل.
لقاء نتنياهو–ترامب: الحسم على الطاولة
زيارة نتنياهو لواشنطن في أواخر يونيو 2025 كانت فرصة حاسمة؛ فقد طلب الرئيس ترامب "إظهار إنجاز" قبل الانتخابات النصفية، وضغط لتمرير هدنة تحظى بدعم شعبي في الولايات المتحدة.
موازين القوى الميدانية
واجه جيش الدفاع الإسرائيلي (IDF) تصاعدًا في إطلاق الصواريخ من غزة، الذي بلغ متوسطه اليومي 50 صاروخًا، ما استنزف مخزون القبة الحديدية ورفع تكلفة العمليات الاعتراضية إلى أكثر من 100 ألف دولار صیدیفة لكل صاروخ معترض (IDF Reports, June 2025).
القدرات الصاروخية لفصائل المقاومة
- حماس تُدير ترسانة متنوعة تتراوح بين رشقات صواريخ أرض–أرض قصيرة المدى ومدى 40 كم إلى صواريخ طويلة المدى 120 كم.
- استخدام طائرات الدرون الصغيرة لاستهداف البنى التحتية الحيوية داخل العمق الإسرائيلي.
الضغط على الدفاعات الإسرائيلية
ضغط الصواريخ اليومية، إضافة إلى هجمات الطائرات المسيرة، خلق فجوات مؤقتة في منظومة الاعتراض، ما أدى إلى خسائر مادية وإنسانية داخل المجتمع الإسرائيلي وضغط شعبي لوقف القتال.
العمليات البرية وتأثيرها
الجيش أطلق عملية محدودة داخل معبر رفح للتأكد من وجود أسلحة حماسية، لكن دون نية اجتياح شامل؛ هذا الانسحاب التكتيكي سمح بالحديث عن إمكانية التهدئة بدون تبعات أمنية كبرى.
التوازن الأمني الاستراتيجي
بوسع نتنياهو الآن أن يعلن عن "إنجاز أمني" يتمثل بخفض وتيرة الهجمات الصاروخية، مع الحفاظ على القدرة على استئناف العمليات في حال اختراق الهدنة.
استراتيجية "الرفع بالمقاطعة" إسرائيلية
نتنياهو وظّف مقولة رفع الحصار جزئيًا كحافز لتعطيل القبة الحديدية مؤقتًا، ما سمح بتمرير هدنة دون الخوف من استنزاف أكبر.
حركة حماس واستراتيجية "المقاومة المستدامة"
- تكتيك الإبقاء على رصاصة في الجعبة: لم تُفرِغ كل مخزون الصواريخ حفاظًا على ورقة التفاوض.
- تسريبات إعلامية عن استنزاف معنوي وجغرافي للعدو لدعم موقفهم في المفاوضات.
المناورة السياسية المتبادلة
توصل الطرفان لتكتيك "الهدنة القابلة للتمديد" كموضع بيعقوب؛ كلما احتاجنت إسرائيل لاستعراض إنجاز، مددته، وحين تحتاج حماس لرفع المعنويات عرضته كدليل نجاح.
استراتيجيات الفعل ورد الفعل
كل طلقة أُطلقت أو هُدّدت بإطلاقها شكلت عاملًا للمساومة في الطاولة، وحركة حماس جندت العواصم الأوروبية لطلب دعم القرار عبر برلماناتهم.
بناء سيناريوهات ما بعد الهدنة
الطرفان علّقا على ربط الهدنة بملف إعادة الإعمار وإدخال مواد بناء كشرط استراتيجي لضمان استدامة الهدنة.
الوضع الإنساني في غزة
بعد أشهر من الحصار والقتال، بلغ عدد النازحين داخل القطاع أكثر من 1.5 مليون شخص، وارتفعت معدلات سوء التغذية إلى 35% بين الأطفال ([UNICEF Gaza Report, May 2025]). الهدنة فتحت المعابر أمام دخول المساعدات الطبية والغذائية.
تداعيات اقتصادية إسرائيلية
تكبد الاقتصاد الإسرائيلي خسائر تقدّر بنحو 2.3 مليار دولار نتيجة تعطّل حركة الشحن الجوي والبحري القريبة من غزة ([Bank of Israel, Q2 2025]). الهدنة خففت المخاوف الأمنية وعزّزت الأسواق المحلية.
فرص إعادة الإعمار
خطة أممية بقيمة 1.8 مليار دولار لإعادة بناء المنازل والمدارس والمستشفيات جرى إطلاقها بقيادة البنك الدولي والاتحاد الأوروبي ([World Bank Press Release, June 2025]).
تحديات الاستقرار
- إدارة الموارد المائية والكهرباء بعد التدمير الشامل.
- تنظيم توزيع المساعدات لمنع فساد محلي.
- ضمان مشاركة حركة فتح والسلطة الوطنية في إعادة الإعمار.
الأفق المستقبلي
الهدنة المؤقتة قد تتطور إلى عملية سياسية أوسع إذا استمر التدفق الإنساني وإدارة الأزمة بشكل فعّال، لكن غياب ضمانات دولية للصمود يجعل هذه الآمال هشة.
نُشر بتاريخ: 6 يوليو 2025 – شبكة الرأي الحر