نداء 73 كنيسة بروتستانتية في هولندا: اعتراف بفلسطين ووقف تسليح إسرائيل
موجز الخبر: ماذا قالت الكنائس وماذا تطالب؟
في نداءٍ علني غير مسبوق من حيث اتساعه داخل المجتمع البروتستانتي الهولندي، دعت إدارات 73 كنيسة بروتستانتية الحكومة في لاهاي إلى اتخاذ حزمة خطوات عملية تتقدمها الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين وإيقاف شحنات الأسلحة إلى إسرائيل، إضافة إلى الضغط الفوري من أجل وقف إطلاق النار، وتأمين المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، ووقف العنف في الضفة الغربية، وتشجيع الإفراج المتبادل عن الأسرى. وبحسب النداء، فإن الاعتراف ليس "قضية سياسية صِرف" بقدر ما هو واجب إنساني وأخلاقي، يرتبط بصون الحياة والكرامة وحقوق الإنسان.
أشارت صاحبة المبادرة القِسّة كارولين جِسبرز إلى أن "تجويع سكان غزة" كان لحظة فارقة أخلاقيًا دفعتها للعمل، مؤكدة أن الدولة الفلسطينية "شرط لا غنى عنه لحياة آمنة للشعب الفلسطيني".
خلفية دينية وتاريخية: الكنائس الهولندية والقضايا العادلة
تاريخيًا، لعبت الكنائس البروتستانتية في أوروبا الشمالية، ومن ضمنها هولندا، دورًا مؤثرًا في تشكيل الوعي الأخلاقي العام حول قضايا العدالة والسلام وحقوق الإنسان. فقد انخرطت مؤسسات دينية هولندية في دعم مكافحة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وساندت مبادرات اللاعنف وحركات استقبال اللاجئين. هذا الإرث الأخلاقي يجعل من الطبيعي أن تتصدر الكنائس اليوم الدعوة لسياسة خارجية أكثر اتساقًا مع القانون الدولي في القضية الفلسطينية.
في السياق ذاته، تنظر الكنائس إلى الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي عبر عدسة العدالة التصالحية، لا منطق القوة الغاشمة. فالرسالة اللاهوتية التي تضع كرامة الإنسان في المركز تُلزمها بمناهضة العقاب الجماعي والسياسات التي تُفضي إلى التهجير والتجويع، وتحثّ على حلول سياسية عادلة تُنهي الاحتلال وتضمن الحقوق المدنية والسياسية لجميع السكان.
المطلب المحوري: لماذا الاعتراف بالدولة الفلسطينية الآن؟
تُجادل القيادات الكنسية بأن الاعتراف بدولة فلسطين يمكن أن يؤدي إلى ثلاثة آثار متداخلة: أولًا، منح الفلسطينيين الذاتية القانونية الكاملة بما يعزز قدرتهم على إبرام الاتفاقيات وتمثيل شعبهم في المحافل الدولية؛ ثانيًا، تصحيح اختلال ميزان القوى التفاوضي الذي طالما استُخدم لتكريس الأمر الواقع على الأرض؛ وثالثًا، تحديد إطار زمني للمسار السياسي يدفع الأطراف الدولية لتبنّي آليات مراقبة ومساءلة، بدل ترك العملية السلمية رهينة الوعود المفتوحة.
ويتناغم هذا الطرح مع موجة أوسع داخل أوروبا والعالم؛ إذ اعترفت دول أوروبية مثل إيرلندا وإسبانيا والنرويج بالدولة الفلسطينية في 2024، بينما أعلنت دول أخرى نيتها المضي في الخطوة ضمن تزامن مع اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وفق هذا المنطق، يتضاعف تأثير الاعتراف الهولندي المحتمل باعتباره صدى لموقف أخلاقي–قانوني آخذ في الاتساع.
وقف شحنات السلاح: قراءة قانونية وأخلاقية
لا يتوقف النداء عند الاعتراف فحسب، بل يطال تجارة الأسلحة بوصفها رافعة مادية للصراع. يستند هذا المطلب إلى معاهدة تجارة الأسلحة (ATT) التي تُلزم الدول الأطراف بتقييم مخاطر استخدام الأسلحة المُصدّرة في ارتكاب انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي. وعندما تبرز أدلة معقولة على خطرٍ واضحٍ لإساءة الاستخدام، تُصبح الإحالة أو التقييد واجبة أخلاقيًا وقانونيًا.
أخلاقيًا، تُذكّر الكنائس بأن توريد السلاح في ظل تقارير متواترة عن استهداف المدنيين والحصار الممتد يُحوّل الصمت إلى تواطؤ. ومن ثمّ، فإن تعليق الصادرات لا يعني الانحياز لطرف، بل الانحياز لمبدأ حماية المدنيين ومنع تفاقم الانتهاكات.
وقف إطلاق النار والمساعدات الإنسانية: من الإغاثة إلى الكرامة
يُطالب النداء بوقفٍ شامل لإطلاق النار لإتاحة فرصة إنسانية لالتقاط الأنفاس في غزة، وفتح المعابر لإدخال الغذاء والدواء والوقود، وضمان وصول المنظمات الإنسانية بلا عوائق. كما يُشدد على ضرورة كبح العنف في الضفة الغربية، بما يشمل وقف الاقتحامات واعتداءات المستوطنين التي تصاعدت وتيرتها في السنوات الأخيرة.
في هذا الإطار، تتحول المساعدات من مجرد إغاثة طارئة إلى استثمار في الكرامة، عندما تُقرن بسياسات واضحة لإنهاء الحصار والاحتلال وتكافؤ الحقوق. فالإغاثة بلا أفق سياسي آمن، تعيد إنتاج المعاناة ولا تُنهيها.
الإفراج المتبادل عن الأسرى: مدخل لبناء الثقة
يُدرج النداء بند الإفراج المتبادل عن الأسرى ضمن حزمة إجراءات لبناء الثقة، إدراكًا لحساسية هذا الملف لدى العائلات والشارع في الجانبين. تاريخيًا، كانت صفقات التبادل نقاط انعطاف مهمة فتحت نوافذ سياسية، ولو مؤقتًا. لذلك، يوصي القادة الدينيون بتأطير مبادرات إنسانية ملموسة تُخفف الاحتقان وتُعيد مركزية حياة الإنسان فوق الحسابات السياسية.
الهولنديون بين الأخلاق والسياسة: أين تقف الحكومة؟
سياسيًا، تميل الحكومات الهولندية المتعاقبة إلى مقاربة متوازنة شكليًا، تجمع بين الدعم التقليدي لإسرائيل والالتزام بالقانون الدولي. غير أن ضغط المجتمع المدني—ومن ضمنه الكنائس والنقابات والجامعات—يدفع نحو مراجعة أكثر صراحةً، خاصة مع تصاعد تقارير الانتهاكات في غزة والضفة. في ضوء ذلك، يُفهم نداء الكنائس كجزء من تحول بوصلة الرأي العام، وما يخلقه من كُلفة سياسية لاستمرار سياسات "الأعمال كالمعتاد".
من جهة أخرى، ترى بعض القوى الحزبية أن الاعتراف الأحادي قد يُضعف دور الوساطة الهولندية. لكن موقف الكنائس يُحاجج بعكس ذلك: الاعتراف يُعيد تعريف الحياد كحيادٍ أخلاقيٍ يرفض التطبيع مع القمع، بدل حيادٍ شكلي يُساوي بين الضحية والجلاد.
الزاوية الأوروبية: من الاعترافات الفردية إلى سياسة مشتركة
على المستوى الأوروبي، تتباين مواقف الدول بين داعم صريح للاعتراف ومتردد يربطه بتقدم عملية السلام. لكن اتساع رقعة الاعتراف—كما حدث في 2024—يؤشر إلى تحوّل بطيء لكن متواصل في المقاربة الأوروبية. تتوقع الكنائس أن يُسهم أي اعتراف هولندي في تشجيع تنسيق أوروبي أوسع حول المبادئ: حماية المدنيين، محاسبة الانتهاكات، ودعم حل الدولتين وفق حدود معترف بها دوليًا، بما يشمل القدس الشرقية عاصمةً للدولة الفلسطينية.
بوصلة القانون الدولي: من تقرير المصير إلى حظر العقاب الجماعي
يستند الخطاب الكنسي إلى منظومة قانونية واضحة: حق تقرير المصير، عدم جواز اكتساب الأرض بالقوة، حظر العقاب الجماعي، حماية دور العبادة وحرية الوصول إليها، وضرورة التمييز والتناسب في العمليات العسكرية. بتفعيل هذه المبادئ، يُصبح الاعتراف بالدولة الفلسطينية خطوة تصحيحية لا عقابية، تُعيد توازن الحقوق وتُسند مسارًا تفاوضيًا غير مرتهن بالقوة.
ردود الفعل المتوقعة: إسرائيل، الجاليات، والمنابر الدينية
من المرجح أن تُقابل الدعوة برفض إسرائيلي رسمي بدعوى أنها "تكافئ" طرفًا على العنف. إلا أن الكنائس تُميّز بين منح الشرعية للشعب وبين تبني برنامج فصيل سياسي بعينه، وتؤكد أن الاعتراف لا يعفي أحدًا من الالتزامات تجاه القانون الدولي أو من نبذ استهداف المدنيين.
داخل هولندا، قد تتباين مواقف الجاليات الدينية والقومية. لكن وجود قيادة كنسية عابرة للطوائف تتبنى خطابًا حقوقيًا يُقلل مخاطر الاستقطاب ويُعلي شأن المشترك الإنساني: حماية الحياة، وصون الكرامة، ورفض العنصرية وخطاب الكراهية.
بين الاعتراف الرمزي والقوة العملية: ماذا بعد؟
الاعتراف، بحد ذاته، لا يُنهي الاحتلال ولا يوقف الاستيطان، لكنه يُنتج آثارًا عملية: تسهيل تمثيل فلسطيني أقوى في المؤسسات الدولية، تعزيز الولاية القضائية على الجرائم، تمكين برامج إعادة الإعمار، وفتح قنوات تمويل تنموي مستقلة عن الإرادة السياسية لإسرائيل. وتُراهن الكنائس أن هذا الأثر التراكمي، مع وقف تسليح طرف منخرط في انتهاكات جسيمة، قد يدفع الأطراف نحو حل سياسي ملزم، بدلاً من إدارة صراع دائمة.
سياق دولي أوسع: لماذا يهم قرار هولندا؟
لهولندا مكانة قانونية وأخلاقية خاصة لاحتضانها محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. أي تحول في سياساتها يعكس التزامًا بمبدأ سيادة القانون عالميًا، ويُرسل رسالة بأن العدالة لا تتجزأ. وتُدرك الكنائس أن اتساق خطاب لاهاي "عاصمة القانون الدولي" مع سياساتها الخارجية يُعزّز مصداقية أوروبا في قضايا حقوق الإنسان.
كيف يمكن للحكومة أن تستجيب عمليًا؟
- إصدار بيان اعتراف رسمي بالدولة الفلسطينية ضمن حدود معترف بها دوليًا، مع التأكيد على مسار تفاوضي برعاية دولية.
- تعليق تراخيص تصدير السلاح والمواد ذات الاستخدام المزدوج إلى حين التحقق من عدم استخدامها في انتهاكات جسيمة.
- زيادة التمويل الإنساني والطبي لقطاع غزة، وتسهيل عمليات الشحن والإدخال عبر شركاء موثوقين.
- تبني عقوبات هادفة ضد الأفراد والكيانات الضالعة في العنف في الضفة الغربية، بما يشمل قيود السفر وتجميد الأصول.
- رعاية مبادرات إفراج متبادل عن الأسرى، بإشراف دولي وضمانات تُراعي الجوانب الإنسانية والقانونية.
الإعلام والرأي العام: دور السردية الأخلاقية
تُبرز التجارب أن الإطار الأخلاقي—لا سيما حين تصوغه جهات دينية موثوقة—قادر على تغيير آراء المترددين، وتحويل موضوعات سياسية إلى واجبات إنسانية. من هنا، يتجاوز تأثير نداء 73 كنيسة جدران المعابد إلى غرف التحرير والبرلمانات والجامعات، مُعيدًا تعريف السؤال من "هل نعترف؟" إلى "كيف نتوقف عن التواطؤ مع المأساة؟".
خلاصة تحليلية
يُمثّل النداء الكنسي الهولندي لحظةً أخلاقيةً وسياسيةً لافتة تعكس انزياحًا في الضمير الأوروبي نحو مركزية حياة الإنسان فوق الاصطفافات. إن الجمع بين الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ووقف تسليح طرف متهم بارتكاب انتهاكات جسيمة، والضغط من أجل وقف إطلاق نار شامل، يشكّل حزمة متكاملة تتسق مع القانون الدولي وتفتح نافذة لمسارٍ سياسي أقل اختلالًا. تبقى الكرة في ملعب صانع القرار الهولندي: إما الاستجابة لنداء الضمير، أو مواصلة سياسة الانتظار التي أثبتت عجزها.