تهديدات جيوسياسية وأمنية.. لماذا تعارض إيران ممر زنغزور؟
ممر بري يربط باكو بنخجوان عبر جنوب أرمينيا، يَعِدُ تركيا وآسيا الوسطى بنفَسٍ تجاري جديد، ويطلق إنذارات مبكّرة في طهران.
ما هو ممر زنغزور؟
يُقصد بممر زنغزور طريقاً برياً إستراتيجياً يربط أذربيجان بإقليم نخجوان ذي الحكم الذاتي، مروراً بجنوب أرمينيا. من منظور باكو وأنقرة، يشكّل الممر ضلعا رئيسياً في ربط تركيا بآسيا الوسطى عبر الأراضي الأذربيجانية، بما يَعِدُ بطرق أقصر لنقل السلع والطاقة ويُنعش التجارة العابرة للقارات.
بنشأة المشروع بعد الحرب الثانية في قره باغ، انتقل من فكرة بنى تحتية إلى ورقة لإعادة هندسة التوازنات في جنوب القوقاز، ما جعله ملفاً تمسّ ارتداداته كل اللاعبين الإقليميين، وعلى رأسهم إيران.
لماذا ترى طهران الممر تهديداً؟
- أمن الحدود والعمق الإستراتيجي: يخشى صُنّاع القرار في إيران من أن يؤدي الممر إلى تقليص الاتصال البري مع أرمينيا—المنفذ التاريخي نحو شمال القوقاز وأوروبا—وهو ما يُقرأ كاختناق جيوسياسي يُضعف حرية الحركة والمرونة الدبلوماسية.
- تعزيز محور تركي-ناطق بالتركية: يسهّل الممر تحقيق رؤية الربط التركي مع دول آسيا الوسطى الناطقة بالتركية. بالنسبة لطهران، هذا يمنح أنقرة أوراق ضغط إضافية على تخومها الشمالية الغربية.
- نافذة محتملة للناتو على بحر قزوين: فتح ممر بري متماسك قد يوفّر لحلف الناتو مسارات لوجستية نحو القوقاز وقزوين، بما يرفع منسوب الاحتكاك الأمني قرب المجال الإيراني الحساس.
- الحضور الإسرائيلي في القوقاز: العلاقات العميقة بين باكو وتل أبيب في مجالي الطاقة والتسليح، وسوابق استخدام الأراضي الأذربيجانية في عمليات ضد أهداف داخل إيران، تجعل الممر خطراً مزدوجاً: لوجستيّاً واستخباريّاً.
- تراجع الوزن الإيراني في سلاسل النقل: التحول نحو مسارات لا تعبر إيران يعني تقليص حصتها من ترانزيت البضائع والطاقة، وتراجع نفوذها في المبادرات الكبرى كـالحزام والطريق.
- توطيد نفوذ أمريكي طويل الأمد: إشراف أو امتيازات بعقود ممتدة لشركات أمريكية على المشروع يُفسَّر في طهران كتثبيت حضور غربي بالقرب من حدودها، مع ما يحمله من أدوات ضغط سياسية وأمنية.
من مشروع نقل إلى معادلة قوة
لا تنظر إيران إلى زنغزور كمجرد خط شاحنات؛ بل كرافعة لإعادة توزيع النفوذ في جنوب القوقاز. فبنجاح المشروع، تتعاظم قدرات أذربيجان البرية ويشتدّ الدور التركي شرقاً، فيما تتعرّض أرمينيا لمزيد من العزلة البرية، وتخسر إيران منفذاً يعزّز حضورها الإقليمي.
يزيد المشهد تعقيداً دخول الولايات المتحدة لاعبةً في إدارة أو تمويل أعمال الممر، وهو ما يُترجم في طهران كسعي لتطويق نفوذها وتقييد قدرتها على التأثير في شؤون القوقاز.
التهديد المركّب: أمن داخلي وإقليمي
ترى طهران أن الممر يخلق ضغطاً أمنياً داخلياً أيضاً؛ فالزخم الاتصالي التركي-الأذري عبر بوابة زنغزور قد يغذي سرديات قومية عبر الحدود، ما يضيف طبقة حساسة إلى معادلة الأمن القومي الإيراني.
إقليمياً، يفتح الممر خطوط تماس جديدة بين مصالح روسيا وتركيا والغرب وإيران، ويحوّل جنوب القوقاز إلى ساحة تنافس عابر للحدود، حيث تتحرك ملفات الطاقة والموانئ والممرات في «حزمة واحدة».
الاقتصاد والسيادة: أين يتقاطعان؟
على الورق، تبدو فوائد التجارة واضحة: زمن شحن أقصر، كلفة أقل، وصول أوسع إلى أسواق آسيا الوسطى. لكن من منظور إيران، الأرباح الاقتصادية لا تعادل كلفة المخاطر السيادية—تحديداً إذا ارتبط الممر بترتيبات رقابية خارجية أو ترتّبت عليه تغييرات في واقع الحدود المعترف بها دولياً.
لذلك، تكرر طهران خطوطها الحمراء: لا لتغيير الحدود، لا لخنق معبر أرمينيا، لا لتمكين عسكري/استخباري معادٍ على خطوط التماس. وأي حوار حول ربط إقليمي يجب أن يضمن تكافؤاً في المنافع ويحفظ «أمن الممرات» للجميع، لا لطرف واحد.
سيناريوهات مستقبلية
- تسوية مُدارة: ممر «قابل للعكس» بضمانات دولية تحمي حدود أرمينيا وتؤمّن لإيران اتصالها البري التقليدي، مقابل تسهيلات نقل محددة زمنياً ومشروطة.
- تجميد مع تحسين بدائل: تعويض باكو وأنقرة بمسارات لوجستية محايدة عبر اتفاقات ترانزيت متعددة، مع ترقية خطوط داخل إيران لتقليل دوافع تجاوزها.
- فرض الأمر الواقع: وهو السيناريو الأكثر تصعيداً، حيث يمضي الممر قدماً بصيغة تُهمّش اعتراضات طهران، ما سيُقابل على الأرجح بردود أمنية ودبلوماسية إيرانية صلبة.
خلاصة
جوهر الاعتراض الإيراني على ممر زنغزور لا يتعلق بالأسفلت والسكك الحديد فحسب، بل بميزان القوة حولها: من يمسك بالمفاتيح؟ لمن تُفتح بوابات القوقاز؟ وبأي شروط تُصاغ خرائط التجارة والأمن الجديدة؟ طالما لم تُجب ترتيبات الممر عن هذه الأسئلة بما يحفظ الحدود المعترف بها والتوازن الإقليمي والأمن القومي الإيراني، سيبقى الرفض في طهران موقفاً منطقياً في معادلة لا تزال تتحرك.